كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد عدلت هذه العقوبة كذلك- فيما بعد- فروى أهل السنن حديثًا مرفوعًا عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به».
وتبدو في هذه الأحكام عناية المنهج الإسلامي بتطهير المجتمع المسلم من الفاحشة؛ ولقد جاءت هذه العناية مبكرة: فالإسلام لم ينتظر حتى تكون له دولة في المدينة وسلطة تقوم على شريعة الله وتتولاها بالتنفيذ. فقد ورد النهي عن الزنا في سورة الإسراء المكية: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلًا} كما ورد في سورة المؤمنون: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} {والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت إيمانهم فإنهم غير ملومين} وكرر هذا القول في سورة المعارج.
ولكن الإسلام لم تكن له في مكة دولة ولم تكن له فيها سلطة؛ فلم يسن العقوبات لهذه الجريمة التي نهى عنها في مكة إلا حين استقامت له الدولة والسلطة في المدينة ولم يعتبر النواهي والتوجيهات وحدها كافية لمكافحة الجريمة وصيانة المجتمع من التلوث.
لأن الإسلام دين واقعي يدرك أن النواهي والتوجيهات وحدها لا تكفي ويدرك أن الدين لا يقوم بدون دولة وبدون سلطة. وإن الدين هو المنهج أو النظام الذي تقوم عليه حياة الناس العملية وليس مجرد مشاعر وجدانية تعيش في الضمير بلا سلطة وبلا تشريع وبلا منهج محدد ودستور معلوم!
ومنذ أن استقرت العقيدة الإسلامية في بعض القلوب في مكة أخذت هذه العقيدة تكافح الجاهلية في هذه القلوب وتطهرها وتزكيها. فلما أن أصبحت للإسلام دولة في المدينة وسلطة تقوم على شريعة معلومة وتحقق في الأرض منهج الله في صورة محددة أخذ يزاول سلطته في صون المجتمع من الفاحشة عن طريق العقوبة والتأديب- إلى جانب التوجيه والموعظة- فالإسلام كما قلنا ليس مجرد اعتقاد وجداني في الضمير إنما هو- إلى جانب ذلك- سلطان ينفذ في واقع الحياة ذلك الاعتقاد الوجداني ولا يقوم أبدًا على ساق واحدة.
وكذلك كان كل دين جاء من عند الله. على عكس ما رسخ خطأ في بعض الأذهان من أن هناك أديانًا سماوية جاءت بغير شريعة وبغير نظام، وبغير سلطان.. كلا! فالدين منهج للحياة. منهج واقعي عملي. يدين الناس فيه لله وحده ويتلقون فيه من الله وحده. يتلقون التصور الاعتقادي والقيم الأخلاقية كما يتلقون الشرائع التي تنظم حياتهم العملية. وتقوم على هذه الشرائع سلطة تنفذها بقوة السلطان في حياة الناس وتؤدب الخارجين عليها وتعاقبهم وتحمي المجتمع من رجس الجاهلية. لتكون الدينونة لله وحده ويكون الدين كله لله. أي لا تكون هناك آلهة غيره- في صورة من الصور- آلهة تشرع للناس وتضع لهم القيم والموازين والشرائع والأنظمة. فالإله هو الذي يصنع هذا كله. وأيما مخلوق ادعى لنفسه الحق في شيء من هذا فقد ادعى لنفسه الألوهية على الناس.. وما من دين من عند الله يسمح لبشر أن يكون إلهًا وأن يدعي لنفسه هذه الدعوى ويباشرها.. ومن ثم فإنه ما من دين من عند الله يجيء اعتقادًا وجدانيًا صرفًا بلا شريعة عملية وبلا سلطان ينفذ به هذه الشريعة!
وهكذا أخذ الإسلام في المدينة يزاول وجوده الحقيقي؛ بتطهير المجتمع عن طريق التشريع والتنفيذ والعقوبة والتأديب. على نحو ما رأينا في هذه الأحكام التي تضمنتها هذه السورة والتي عدلت فيما بعد ثم استقرت على ذلك التعديل. كما أرادها الله.
ولا عجب في هذه العناية الظاهرة بتطهير المجتمع من هذه الفاحشة؛ والتشدد الظاهر في مكافحتها بكل وسيلة. فالسمة الأولى للجاهلية- في كل زمان- كما نرى في جاهليتنا الحاضرة التي تعم وجه الأرض- هي الفوضى الجنسية والانطلاق البهيمي بلا ضابط من خلق أو قانون.
واعتبار هذه الاتصالات الجنسية الفوضوية مظهرًا من مظاهر الحرية الشخصية لا يقف في وجهها إلا متعنت! ولا يخرج عليها إلا متزمت!
ولقد يتسامح الجاهليون في حرياتهم الإنسانية كلها ولا يتسامحون في حريتهم البهيمية هذه! وقد يتنازلون عن حرياتهم تلك كلها ولكنهم يهبون في وجه من يريد أن ينظم لهم حريتهم البهيمية ويطهرها!
وفي المجتمعات الجاهلية تتعاون جميع الأجهزة على تحطيم الحواجز الأخلاقية وعلى إفساد الضوابط الفطرية في النفس الإنسانية وعلى تزيين الشهوات البهيمية ووضع العناوين البريئة لها وعلى إهاجة السعار الجنسي بشتى الوسائل ودفعه إلى الإفضاء العملي بلا ضابط وعلى توهين ضوابط الأسرة ورقابتها وضوابط المجتمع ورقابته وعلى ترذيل المشاعر الفطرية السليمة التي تشمئز من الشهوات العارية وعلى تمجيد هذه الشهوات وتمجيد العري العاطفي والجسدي والتعبيري!
كل هذا من سمات الجاهلية الهابطة التي جاء الإسلام ليطهر المشاعر البشرية والمجتمعات البشرية منها. وهي هي بعينها سمة كل جاهلية.. والذي يراجع أشعار امرئ القيس في جاهلية العرب يجد لها نظائر في أشعار الجاهلية الإغريقية والجاهلية الرومانية.. كما يجد لها نظائر في الآداب والفنون المعاصرة في جاهلية العرب والجاهليات الأخرى المعاصرة أيضًا! كما أن الذي يراجع تقاليد المجتمع وتبذل المرأة ومجون العشاق وفوضى الاختلاط في جميع الجاهليات قديمها وحديثها يجد بينها كلها شبهًا ورابطة ويجدها تنبع من تصورات واحدة وتتخذ لها شعارات متقاربة!
ومع أن هذا الانطلاق البهيمي ينتهي دائمًا بتدمير الحضارة وتدمير الأمة التي يشيع فيها- كما وقع في الحضارة الإغريقية والحضارة الرومانية والحضارة الفارسية قديمًا- وكما يقع اليوم في الحضارة الأوربية وفي الحضارة الأمريكية كذلك وقد أخذت تتهاوى على الرغم من جميع مظاهر التقدم الساحق في الحضارة الصناعية. الأمر الذي يفزع العقلاء هناك. وإن كانوا يشعرون- كما يبدو من أقوالهم- بأنهم أعجز من الوقوف في وجه التيار المدمر!
مع أن هذه هي العاقبة فإن الجاهليين- في كل زمان وفي كل مكان- يندفعون إلى الهاوية ويقبلون أن يفقدوا حرياتهم الإنسانية كلها أحيانًا ولا يقبلون أن يقف حاجز واحد في طريق حريتهم البهيمية. ويرضون أن يستعبدوا استعباد العبيد ولا يفقدوا حق الانطلاق الحيواني!
وهو ليس انطلاقًا وليس حرية. إنما هي العبودية للميل الحيواني والانتكاس إلى عالم البهيمة! بل هم أضل! فالحيوان محكوم- في هذا- بقانون الفطرة التي تجعل للوظيفة الجنسية مواسم لا تتعداها في الحيوان، وتجعلها مقيدة دائمًا بحكمة الإخصاب والإنسال. فلا تقبل الأنثى الذكر إلا في موسم الإخصاب ولا يهاجم الذكر الأنثى إلا وهي على استعداد! أما الإنسان فقد تركه الله لعقله؛ وضبط عقله بعقيدته. فمتى انطلق من العقيدة ضعف عقله أمام الضغط ولم يصبح قادرًا على كبح جماح النزوة المنطلقة في كيانه.
ومن ثم يستحيل ضبط هذا الاندفاع وتطهير وجه المجتمع من هذا الرجس إلا بعقيدة تمسك بالزمام وسلطان يستمد من هذه العقيدة وسلطة تأخذ الخارجين المتبجحين بالتأديب والعقوبة. وترد الكائن البشري بل ترفعه من درك البهيمة إلى مقام الإنسان الكريم على الله.
والجاهلية التي تعيش فيها البشرية تعيش بلا عقيدة كما تعيش بلا سلطة تقوم على هذه العقيدة ومن ثم يصرخ العقلاء في الجاهليات الغربية ولا يستجيب لهم أحد؛ لأن أحدًا لا يستجيب لكلمات طائرة في الهواء ليس وراءها سلطة تنفيذية وعقوبات تأديبية. وتصرخ الكنيسة ويصرخ رجال الدين ولا يستجيب لهم أحد؛ لأن أحدًا لا يستجيب لعقيدة ضائعة ليس وراءها سلطة تحميها وتنفذ توجيهاتها وشرائعها! وتندفع البشرية إلى الهاوية بغير ضابط من الفطرة التي أودعها الله الحيوان! وبغير ضابط من العقيدة والشريعة التي أعطاها الله الإنسان!
وتدمير هذه الحضارة هو العاقبة المؤكدة التي توحي بها كل تجارب البشرية السابقة. مهما بدا من متانة هذه الحضارة وضخامة الأسس التي تقوم عليها. فالإنسان- بلا شك- هو أضخم هذه الأسس. ومتى دمر الإنسان فلن تقوم الحضارة على المصانع وحدها ولا على الإنتاج!
وحين ندرك عمق هذه الحقيقة ندرك جانبًا من عظمة الإسلام، في تشديد عقوباته على الفاحشة لحماية الإنسان من التدمير؛ كي تقوم الحياة الإنسانية على أساسها الإنساني الأصيل. كما ندرك جانبًا من جريمة الأجهزة التي تدمر أسس الحياة الإنسانية بتمجيد الفاحشة وتزيينها وإطلاق الشهوات البهيمية من عقالها وتسمية ذلك أحيانًا بالفن وأحيانًا بالحرية وأحيانًا بالتقدمية.. وكل وسيلة من وسائل تدمير الإنسان ينبغي تسميتها باسمها.. جريمة.. كما ينبغي الوقوف بالنصح والعقوبة في وجه هذه الجريمة!.. وهذا ما يصنعه الإسلام. والإسلام وحده؛ بمنهجه الكامل المتكامل القويم.
على أن الإسلام لا يغلق الأبواب في وجه الخاطئين والخاطئات ولا يطردهم من المجتمع إن أرادوا أن يعودوا إليه متطهرين تائبين، بل يفسح لهم الطريق ويشجعهم على سلوكه. ويبلغ من التشجيع أن يجعل الله قبول توبتهم- متى أخلصوا فيها- حقًا عليه سبحانه يكتبه على نفسه بقوله الكريم. وليس وراء هذا الفضل زيادة لمستزيد.
{إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب. فأولئك يتوب الله عليهم. وكان الله عليمًا حكيمًا. وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار. أولئك أعتدنا لهم عذابًا اليمًا}.
ولقد سبق في هذا الجزء حديث عن التوبة. في ظلال قوله تعالى في سورة آل عمران: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم...}.
وهو بجملته يصح نقله هنا! ولكن التعبير في هذه السورة يستهدف غرضًا آخر.. يستهدف بيان طبيعة التوبة وحقيقتها:
إن التوبة التي يقبلها الله والتي تفضل فكتب على نفسه قبولها هي التي تصدر من النفس فتدل على أن هذه النفس قد أنشئت نشأة أخرى. قد هزها الندم من الأعماق ورجها رجًا شديدًا حتى استفاقت فثابت وأنابت وهي في فسحة من العمر وبحبوحة من الأمل واستجدت رغبة حقيقية في التطهر ونية حقيقية في سلوك طريق جديد..
{إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم. وكان الله عليمًا حكيمًا}..
والذين يعملون السوء بجهالة هم الذين يرتكبون الذنوب.. وهناك ما يشبه الإجماع على أن الجهالة هنا معناها الضلالة عن الهدى- طال أمدها أم قصر- ما دامت لا تستمر حتى تبلغ الروح الحلقوم.. والذين يتوبون من قريب: هم الذين يثوبون إلى الله قبل أن يتبين لهم الموت ويدخلوا في سكراته ويحسوا أنهم على عتباته. فهذه التوبة حينئذ هي توبة الندم والانخلاع من الخطيئة والنية على العمل الصالح والتكفير. وهي إذن نشأة جديدة للنفس ويقظة جديدة للضمير.. {فأولئك يتوب الله عليهم}. {وكان الله عليمًا حكيمًا}.. يتصرف عن علم وعن حكمة. ويمنح عباده الضعاف فرصة العودة إلى الصف الطاهر ولا يطردهم أبدًا وراء الأسوار وهم راغبون رغبة حقيقية في الحمى الآمن والكنف الرحيم.
إن الله سبحانه لا يطارد عباده الضعاف ولا يطردهم متى تابوا إليه وأنابوا. وهو سبحانه غني عنهم وما تنفعه توبتهم ولكن تنفعهم هم أنفسهم وتصلح حياتهم وحياة المجتمع الذي يعيشون فيه. ومن ثم يفسح لهم في العودة إلى الصف تائبين متطهرين.
{وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن}.
فهذه التوبة هي توبة المضطر لجت به الغواية وأحاطت به الخطيئة. توبة الذي يتوب لأنه لم يعد لديه متسع لارتكاب الذنوب ولا فسحة لمقارفة الخطيئة. وهذه لا يقبلها الله لأنها لا تنشئ صلاحًا في القلب ولا صلاحًا في الحياة ولا تدل على تبدل في الطبع ولا تغير في الاتجاه.
والتوبة إنما تقبل لأنها الباب المفتوح الذي يلجه الشاردون إلى الحمى الآمن فيستردون أنفسهم من تيه الضلال وتستردهم البشرية من القطيع الضال تحت راية الشيطان ليعملوا عملًا صالحًا- إن قدر الله لهم امتداد العمر بعد المتاب- أو ليعلنوا- على الأقل- انتصار الهداية على الغواية. إن كان الأجل المحدود ينتظرهم من حيث لا يشعرون أنه لهم بالوصيد..